العقل التواصلى

Faculty Art Year: 2006
Type of Publication: Theses Pages: 229
Authors:
BibID 10034679
Keywords : الفلسفة الغربية    
Abstract:
يحتل السؤال عن ”الحقيقة” المكانة الأبرز فى تاريخ الفكر الفلسفى ، فالبحث عن ”الحقيقة” يعد أهم الإشكاليات التى تتبناها الفلسفة منذ نشأتها حتى الآن ، فالسؤال عن ”الحقيقة” لم يتوقف خاصة بعد هيجل صاحب أكبر مذهب عقلانى فى التاريخ ، وفى عصرنا إزدادت أهمية هذا السؤال ، نتيجة لما حدث من تقدم تكنولوجى وذلك بسبب بزوغ المنهج التجريبى الذى أدى إلى أنفصال العلم عن الفلسفة .وأصبح هناك من يزعم أن هذا المنهج هو الطريق الصحيح المؤدى إلى ”الحقيقة” ، وبناء على ذلك نادت الوضعية إلى تطبيق هذا المنهج فى مجالات العلوم الإنسانية .إلا أن المدرسة التاريخية ( دلتاى – هيدجر – جادامر ) كان لها رأى مغاير لأرآء الوضعية ، فأنتقدها دلتاى ، مستنداً فى ذلك إلى أن طبيعة مادة العلوم الطبيعية تختلف تماماً عن طبيعة مادة العلوم الإنسانية ، فالأخيرة تشتق مادتها من العقول البشرية ، أما العلوم الطبيعية فتشتق مادتها من الطبيعة الخارجية .ولهذا فلا يمكن للعلوم الإنسانية أن تستخدم نفس منهج العلوم الطبيعية ؛ حيث أن هذا المنهج لا يستطيع إدارك ”الحقيقة” فى مجالات العلوم الإنسانية لأنها تتميز ”بالكيفية” التى لا يمكن أن يطالها هذا المنهج القائم على القياس والإحصاء .وفـى ”الوجود والزمان” جعل هيدجر ”الحقيقة” قرينة التناهى الإنسانى ، بمعنى ، أننا إذا أردنـا أن نفهم الوجود الإنسانى وأن نتوصل للحقيقة ، فلابد وأن نفهمه من خلال هذا ”التناهى” الأصيل وتجلياته ، كالحرية ، القلق ، أنتظار الموت ... وغيرها من التجليات الأساسية للوجود الإنسانى ، وهو ما يعبر عن تناهيه وجودياً لا معرفياً فحسب .وفى كتاب ”نداء الحقيقة” أوضح هيدجر أيضاً أن ”الحقيقة” هى التكشف ، والتكشف معناه ظهور الوجود ظهوراً ذاتياً .وقـد تأثـر جادامر بأستاذه تأثراً إيجابياً لدرجة أنه أسس فلسفته على وجودية هيدجر المؤسسة على العدم الوجودى ، وقد تناول جادامر فى مقال ”ماهى الحقيقة” ؟ السؤال عن ”الحقيقة” ، وبذلك بطرح مسألة ”الحقيقة” فى مجال العلوم والفلسفة الوضعية المنطقية ، وأفترض جادامر أن الإشكالية الأساسية المتعلقة بـ ”الحقيقة” فى عصرنا تكمن فى الفهم الخاطئ الذى سببه فلاسفة الوضعية المنطقية ، وذلك بسبب خلطهم بين نموذج المعرفة ، أى المعرفة بما هى كذلك والمنهج القائم على مبدأ التحقق ، وأدى ذلك إلى أن المنهج أصبح هو المعيار الذى على أساسه تقاس ”الحقيقة” .ولكن هل سيكون بمقدور هذا المنهج دارسة الوجود الإنسانى بنفس الدقة التى يدرس بها الوجود الطبيعى ؟كان لهذا السؤال أثر بالغ فى نفس جادامر ، حيث أنه أفترض فى كتابه ”الحقيقة والمنهج” الصادر عام 1960م ، أن ”الحقيقة” لا يمكن أن تنتج عن مثل هذا المنهج القائم على القياس والأحصاء وتوخى الدقة .فالوجود بما هـو كذلك ، ليس مـن بين الموضوعات المرئية أو المحسوسة فقط ، بل وأن هناك الكثير من الأشياء التى يقوم الإنسان بتعريفها تعريفاً مجازياً كى يستطيع التعامل معها ، وأن الوجود الإنسانى يمتلك متغيرات كيفية يصعب السيطرة عليها ، ويصعب أيضاً إخضاعه للقياس ، وإن الإنسان ليس له مفهوم واحد يرتكز عليه هذا المنهج فى دراسته ، ولهذا يصبح هذا المنهج عاجزاً عن إدراك ”الحقيقة” وأنه لا يمكن أن يكون مصدراً وحيداً للحقيقة .وههنا يحاول جادامر البحث عن ”الحقيقة” عن طريق مجال آخر غير مجال هذا المنهج العلمى الدقيق ، وبمعنى آخر ، إن جادامر يبحث عن التجاوز الذى يخترق به كل هذه المزاعم ، ومن خلال الفلسفة ، التاريخ و الفن .وبناء على ذلك افترض جادامر فى كتابه ”العقل فى عصر العلم” أن الفلسفة هى الوحيدة التى بإمكانها أن تستنفد هذا الوجود الإنسانى بما له من مواهب وقدرات إبداعية فائقة لا يستطيع المنهج العلمى اختراقها .فالفلسفة تختلف اختلافاً كلياً وجزئياً عن العلوم الطبيعية ، فالأخيرة عبارة عن ظواهر مادية فردية تتحقق بمفردها طبقاً لقانون فى مجال البحث العلمى ، ولكن الفلسفة عبارة عن أفكار ورؤى تتجاوز كل هذه الفرديات وتتجاوز كل آفق ضيق ، ولذلك يستحيل التعرف عليها من خلال المسار العلمى .فالفلسفة فاعلية اجتماعية وهى رصيدة ما يجرى فى المجتمع من أحداث : من تجارب حية معاشة ؛ فما الإنسان إلا حركة فكرية وجدانية تتسم بالديمومة .فليست الفلسفة عبارة عن تصورات عقلية مجردة عقيم ، تحيل الإنسان إلى مجرد دمية ، ليس له من أمره شئ فى تغير ما يجرى من أحداث من حوله .فإذا كان المنهج التجريبي قد حقق تقدماً مذهلا في مجالات العلوم الطبيعية ، إلا أن هذا التقدم قد تسبب بطريقة أو بأخرى في اغتراب الإنسان وانفصاله عن ماضيه ، وبالتالي اتسعت المسافة بين الذات والموضوع ، وبذلك أغترب عن تاريخه وعن فنه الأصيل ، فأفتقد الإبداع ، وأصبح مجرد مشاهد للتاريخ ، غير قادر على التأثير فيما يجرى من حوله من أحداث .وبناء على ذلك أفتقد الإنسان الفاعلية والمشاركة والتعاون ، وهكذا ساهم المنهج العلمي في تهميش الدور الإنساني في هذا العالم .وبذلك تسبب هذا المنهج في إهمال الإنسان للتراث ، التاريخ ، والفن ، أي كل ما هو غير محكوم بقواعد وأدوات ، بمعنى ، أنه لا يمكن أن يخضع للقواعد والأدوات المنهجية كأي ظاهرة مادية تخضع للدارسة ، وعلى هذا الأساس رفض جادامر ، المنهج العلمي كسبيل آمن لبلوغ الحقيقة .وهل يعنى هذا رفض جادامر للمناهج العلمية بصفة عامة ؟في الحقيقة أنه لم يصدر عن جادامر ما يؤكد أنه ينكر أو حتى يرفض المناهج بصفة عامة ، حيث أنه يتبنى المنهج الفينومينولوجي من هوسرل ، والذي ينحصر في وصف الظاهرة أو وصف ما هو معطى على نحو مباشر ، وترفض الاهتمام بالتركيبات العقلانية القائمة على مفاهيم مجردة .وهكذا فإن جادامر ينتقد من المناهج ما يتعارض مع المنهج الفينومنيولوجى ، أي أنه يناهض كل منهج يدعى لنفسه الكمال المطلق .ولكـن الفلسفة ، بهذا ، لا تقنع بمجرد القهقرى ، بل تسعى جاهدة إلى توطيد الصلة بينها وبين العلم ، حتى يتم الكشف عن المجاهل والشعاب المظلمة وفـى الوجود ، وإعطـاء التفسيرات التي بواسطتها يتم التوصل إلى الحقيقة التي لا نستطيع معرفتها مـن خلال الطريق العلمي ، ومرجعية ذلك أنه مـن طبيعة الفلسفة أنها لا تستخدم منهجاً فردياً غير كافٍ للحصول على الحقيقة بـل تستخدم منهجاً شاملاً الوجود ككل .فالفلسفة نمط غير تقليدي ، وغير شائع بالنسبة لمناهج العلوم الطبيعية ، ومن ثم ، تخرج الفلسفة من دائرة التصورات المغلقة وتقوم بتأصيل فاعليتها في البحث عن الحقيقة خاصة فى مجالات العلوم الإنسانية .وكما أنتقد جادامر العقل الوضعي أنتقد أيضاً العقل التصوري الذي بدوره يحيل الوجود إلى مجرد تصورات تعمل علـى وضع الوجـود في قوالب، ولهذا السـبب أنتقد جادامر أيضـاً أصحاب العقول التأملية القديمة ( ديكارت – كانط – هيجل ) ، فرفـض الوجـود المقترن بالفكـر عند ديكارت ، والذي يتجلى في مقولته الشهيرة ”أنا أفكر .. إذن أنا موجود” ، وبذلك يصبح الوجود ممثلاً فى أفكار فقط ، منكراً لكل التجارب الوجودية للإنسان .وأنتقد جادامر أيضاً ثنائية ”الذات والموضوع” عند كانط حيث أنه قسم العالم إلى قسمين ( العالم الظاهر ) وهو ما يمكن معرفته ، و ”الشيء – في – ذاته” وهو ما لا يمكن معرفته ، فأدى ذلك إلى وجود فجوة بين ”الذات والموضوع” ، وهذا ما رفضه جادامر وذلك لأنه يرى أن الوجود ككل قابل للمعرفة وذلك عن طريق فهمه .وقد وحد هيجل بين العقل والوجود ، فأحال الوجود بذلك إلى مجرد لعبة جدل بين تصورات ثابتة ، قد يكون مسارها معروفاً مسبقاً وإن كانت تبدو على العكس من ذلك ، ولم يعترض جادامر على هذه الجدلية ، بل اعتراضه الأساسي هو أن هذا الجدل لا يمكن أن تنتج عنه الحقيقة ، ولكن يود جادامر أن يغير مفهوم هذا الجدل إلى جدل يتسم بالحيوية والفاعلية عن طريق ذوات حرة قادرة على ممارسة الحوار حول الموضوعات المختلفة ، والتي تصبح قابلة للفهم ، حتى نستطيع الوصول للحقيقة .ولذلك يرى جادامر أن العقل التصوري عاجز عن الوصول للحقيقة ، ومرجعية ذلك أنه أكثر اهتماماً بالشكل وذلك على حساب المضمون ، ولا يهتم أيضاً بالتاريخ الإنساني على الرغم من أن الإنسان يحيا داخل هذا التاريخ .وهكذا أراد جادامر أن يغدو العقل الإنساني تواصلياً من حيث تأسس هذه التواصلية على مستوى الوجود ككل ، وهو يستعين في تأسيسه بثلاثة مـحاور رئيسية : اللغة ، الظاهرة التاريخية والظاهرة الجمالية ، حيث أن اللغة هي المجال الأساسي لعملية التواصل ، وقد أشار جادامر إلى ذلك من خلال مقولته الشهيرة ”أنه لا يمكن فهم الوجود إلا من خلال اللغة” ، وهى أيضاً التي من خلالها يتم الفهم الاتفاق في هذا العالم .وبذلك يصبح بمقدورنا التوصل إلى ”الحقيقة” مباشرة من خلال التبادل فى الكلام ”الحوار” ، ومن خلال الحوار مع التراث أيضاً ، وعبر الظاهرة التاريخية والجمالية أيضاً ، وبناء على ذلك أستخدم جادامر التأويل (الظاهرة الهيرمينوطيقية) حيث أنه أفترض الوجود على شكل نص قابل للفهم والتأويل .وهـكذا يستطيع ”العقل التواصلي” من خلال الظاهرة الهيرمنيوطيقية التوصل إلى حقيقة الوجود الإنساني الأصيل ، والتي عجز عن التوصل إليها كلا من العقل الوضعي والتصوري اللذين أشير إليهما أنفاً .وبهذه الصورة يعمل ”العقل التواصلي” على ”دمج الآفاق” أفق الماضي وأفق الحاضر وانصهار الذات في الموضوع ، ومن ثم ، يختفي الاغتراب والتشيؤ من عالمنا ، وهذا ما أختص به جادامر ”العقل التواصلي” الذي يعيد لحظة الالتحام بالعالم مرة أخرى ، ويكون شاملا لـكل المجالات المختلفة والمتنوعة من مجالات الحياة عامة ، فلا يقتصر العقل على منطقة معينة من الوجود من دون أخرى .وأيضاً التقي هابرماس مـع جادامر في أنهما أرادا من العقل أن يكون تواصلياً ، وقـد أوضح هابرماس ذلك من خلال نظريته في ”الفعل التواصلي” ، ولكن هابرماس أسس توا صليته على المستويين الاجتماعي والسياسي فقط .ويمكننا أيضاً التوصل إلى ”الحقيقة” عن طريق التواصل الوجداني بين الأشخاص المتمثل مثلاً في ظاهرة ”الحب” ، ولكن هذا التواصل قد لا يكون قاسماً مشتركاً بين جميع الناس ، ولذلك يفضل الحقيقة الناتجة عن العقل لأنه يعد القاسم المشترك بين جميع البشر .وهذا البحث عبارة عن محاولة للإجابة عن التساؤلات الرئيسية التالية حول مفهوم العقل التواصلي عند جادامر ، بتناول تحليلي نقدي مقارن في بعض الأحيان :1- عن مدى أصالة نقد جادامر لمفهوم ”الحقيقة الموضوعية” ، أو الناتجة عن تطبيقات المناهج العلمية .2- هل استطاع جادامر تجاوز الفلسفات السابقة فيما يتعلق بمفهوم العقل ؟3- هل يمكن أن يتمتع العقل التواصلي كما صاغه جادامر بكفاية ذاتيته ؟وسيتضمن هذا البحث خمسة فصول تكون بمثابة محاولة للإجابة عن هذه التساؤلات ثم يليها نتائج البحث والمصادر.وسيتناول الفصل الأول :- نقد العقل الكلاسيكي :(أ) نقد العقل العلمي ( الوضعي ) .(ب) نقد العقل التصوري .(ج) إلى تأسيس العقل الجديد .وسيتناول الفصل الثاني :- الهيرمينوطيقا الفلسفية : أساس التواصل(أ) نظرة تاريخية حول مصطلح الهيرمينوطيقا .(ب) خصائص الفلسفة الهيرمينوطيقية .(ج) علاقة الهيرمينوطيقا بالمحاكاه .(د) الهيرمينوطيقا والبينذاتية .وسيتناول الفصل الثالث :- أنطولوجيا العقل التواصلي :(أ) تأسيس .(ب) الفهم / التأويل .(ج) التأويل / الترجمة .(د) التأويل / اللغة .(هـ) القراءة / الكتابة / التأويل .(و) التأويل / اللعب .وسيتناول الفصل الرابع :- فينومينولوجية العقل التواصلي ”اللغة” :- تمهيد(أ) ماهية اللغة وطبيعتها.(ب) اللغة والفكر .(ج) اللغة والعالم .وأخيراً يتناول الفصل الخامس :- مصير العقلانية التواصلية :(أ) مشكلة التواصل العقلاني .(ب) بين هابرماس وجادامر .(ج) خلاصة :-ولا يسعني فى النهاية سوى أن أحمد الله عز وجل ، وأتقدم بخالص الشكر والعرفان .. إلى كل من أ/ عوض محمود طنطاوى ، الدكتور/ سامي عبد العال ، الأستاذ الدكتور/ ظريف حسين ، على ما قدموه لي من نصائح وإرشادات على مدار السنوات الثلاثة السابقة. 
   
     
PDF  
       
Tweet